مَدَنيُّونَ في قُرى إزكي!

مَدَنيُّونَ في قُرى إزكي!
نُشِرَ في مجلة التكوين العدد (٢٣)
___
لا تزال رائحة العيدِ عالقةً في ملابسنا، وطعم الخلِّ العماني محفورًا في ذاكرتنا، إنها مسألة وقتٍ لا أكثر، حتى نعود إلى روتين حياتنا الطبيعة. كان يومًا حارًا مشمسًا في ولاية صحار حينما تلقى والدي اتصالًا من أحد أصدقائه الأعزاء، الذي التقى به في الكثير من جولات العمل ورحلاته، كي يدعوه لزيارته حيثُ يسكن، في ولاية إزكي بالمنطقة الداخلية، فوافق والدي وذهبنا جميعًا برفقته.
إنها المرة الأولى التي أزور فيها المنطقة الداخلية، ولا أذكر أنني زرتها يومًا، حيث إن هذه الزيارة كانت مخصصة لولاية إزكي، وفور وصولنا لها خطفت أنظارنا وقلوبنا بسحرها وروعتها، فقد كانت جميلةً جدًا، وتفاصيل التراثِ وعبقُ الماضي يجسّدان روعة الأجداد والآباء فيها. النخيل على امتداد البصر، وكذا الجبالُ، وترى أولئك الأجداد والشباب تمتزجُ دماؤهم العريقة بالحديثة، لتفوز الحضارة وينتصر الماضي الأصيل عند أداء رزحة العيد.
ربما وجودي وسكني في ولاية صحار ( أحد أجمل وأروع المدن في سلطنة عُمان ) جعلني بعيدةً عن هذا الجزء التراثي البديع من وطننا الحبيب، ففي صُحار الأحياء السكنية شوارعُ وبيوتٌ مغلقة، حتى إنني لا أذكر متى زُرنا جيراننا آخر مرة! ولا أعلم عن أحوالهم إلا ما تيسّر. ولأنها أحد المدن المعاصرة فقد اهتمّت بشكلٍ كبير بالعمران والبناء، ولهذا أظنني لم ألتفت للجانب التراثي المجيد. هذا لا يعني أننا لا نقيم الرقصات القديمة ولا السباقات التقليدية أو ما يفعله الأجداد في الماضي، بالعكس تمامًا، فكل هذهِ الأمور تُقام في المنطقة المجاورة للساحل، كما يقومون بتنظيم سباقٍ للقوارب على الطرق التقليدية ولكن بقوارب حديثة، في بعض المناسبات.
ما شدّني في إزكي أنني رأيتُ أرضي عُمان على جماليتها الطبيعية، فالطبيعةُ معنا شيء من الخيال يُحلّقُ بك في الدهشة حد الافتتان! يكفيكَ أن تمدَّ بصركَ إلى الآفاقِ، لترى تلك اللوحة التي صنعها النخل مع السماء الصافية والشمس الحامية، وبكل تأكيد لا تخلو الولاية من مظاهر التقدّم والحداثة، فقد رأيتُ البيوت القديمة والأنقاض بجانب البيوت الحديثة الجديدة، فأهل الولاية متمسكون ببيوتهم القديمة، حتى إن الحكومة لم تستطع هدم القديم المتهالك؛ لأنها أراضٍ مملوكة للمواطنين.
أحد أجمل المظاهر التي رأيتها في إزكي كرم أهلها، فالكرم معروف لدى العرب بشكل عام، لكن الأسرة التي حللنا ضيوفًا عندها كانت كريمةً جدًا، بل مفعمةً بالكرم. فقد كانوا يقدمون لنا أصناف الطعام والفواكه، ولا يضعون علينا قاصرًا من الأكل أو الشرب. حتى إنهم حرصوا على إعطائنا فترةً من الراحة والقيلولة كي نحصل على النشاط لإكمال مهمة التجوال والزيارات في إزكي.
( قرية النزار  ) أحد أقدم الأماكن في إزكي، ولها تاريخٌ ممتدٌ في التراث العماني، هكذا قال أبي نقلًا عن صديقهِ الإزكوي أن شوارعها ضيّقة، ومرتفعة قليلًا عن الأرض في بعض الأماكن؛ لتتيح لنا فرصة التأمل في التنظيم الهندسي للأراضي والنخيل. ولم نملّ أو نكلّ أبدًا من المشي أو التعرف على هذه المنطقة الفاتنة، بالأخص أنا؛ لأنني أحب أن أرى ماضي البلاد وحضارة الأجداد. كان الطريق صعبًا قليلًا، فنظرًا لضيق الطريق كُنا نضطرُّ  للانتظار في بعض الأحيان حتى تمر السيارات، ثم نمر نحن في الاتجاه المعاكس، أي أن هناك سكة واحدة فقط للمرور.
ذهابنا لقرية النزار، كان لنرى أحد مظاهر الاحتفال بالعيد، ويسمى ( العزوة )، فقد كان الرجال يصطفون في صفين، ويرقصون الرزحة، وبين هذين الصفين رجلان يتبارزان بالسيف ويحملان دروعًا صغيرةً بين أيديهما. وهناك أيضًا من يبيع ألعاب الأطفال والطعام كي يشتريها الصغار بعيديّاتهم. لم أرَ هذه المظاهر المُبهجة إلا في الكتب الدراسية حينما كنا ندرسها صغارًا، أما اليوم فشعوري مختلفٌ تمامًا؛ لأنني أرى هذه الأمور على أرض الواقع، وأعيشُ شعور الأطفال الصغار والنساء اللواتي وإن لم يشاركن في كل هذا، فإن لهن مكانًا مخصصًا للجلوس والمشاهدة.
لم تخلو الرحلة من زياراتٍ لأهل صديق أبي وزوجته، فقد كان أقرباؤهما باذخي الكرم مثلهم، ناهيكَ عن بساطتهم وطيبة قلوبهم ورحابة صدورهم، فقد كانوا يقدّمون لنا ( الفوالة )([1]) بكل ود ومحبة، وكل بيت زرناه كان يفعلُ الشيء ذاته، وكانوا يدعوننا لتناول العشاء والمبيت عندهم، حتى شعرتُ بأن الكرم العربي الأصيل قد أعياني حقًا، فببيت العربيِّ لن تشعر بالجوعِ أو العطشِ أبدًا، لكنني كنتُ آخذُ القليل في كل مرةٍ حتى أرضي الجميع.
 من المهم ذكره بأن الأهل يسكنون بجانب بعضهم، وجميعهم أقارب! فالجار بجانب الجار لا يفرّق بينهما سوى سكة ضيّقة في المناطق القديمة، أو شارع أو حارة في المناطق المستحدثة. هذا القرب لم يخلو من اللطافة والجمال، حيث إننا ذهبنا لزيارة أحد أقرباء زوجة صديق والدي، وقد رجعنا توًّا من زيارة منطقة النزار، فكانت أول من زرنا من أهلها؛ نظرًا لقرب منزلها الكبير الحديث الجميل من حارة النزار القديمة، حيث يفصل بينما شارع ترابي فقط، فعلى اليمين منزلها، وعلى اليسار بيوت قرية النزار والأنقاض. كنا نبدي دهشتنا وإعجابنا بهذه القرية العظيمة، وقد كنا نتحدث عن ضيق السكك والممرات، ومن الظريف أن قالت قريبة الزوجة بأنها تزوجت جارها؛ لأن البيوت القديمة متقابلة وقريبة من بعضها، فكانت تراهُ من النافذة! فضحكنا جميعًا، وعلمتُ أن قصص حبِّ النوافذ لم تكن في الأفلام والمسلسلات فقط، بل هي موجودةٌ في الواقع أيضًا.
لم أحظَ بفرصةِ زيارةِ ( كهف جرنان )؛ لأننا افترقنا عن والدي وصديقه، فقد كنا نحن النساء نمشي مع بعضنا، والرجال يمشون مع بعضهم، وأطفالهُ الصغار أخذوا أخي الصغير وذهبوا للاحتفال بالباقي من العزوة. لكنَّ زوجة صديق أبي أخبرتنا عن الكهف، فقالت بأن أهالي إزكي كانوا يعبدون صنمًا قبل الإسلام على شكل عجلٍ من ذهب، ويدعى جرنان، وبعد دخولهم الإسلام خاف الذين لم يسلموا عليه، وخبؤوه في ذلك الكهف، ليتم بعد مدة من الزمن تسميته بكهف جرنان. وأخبرتنا بأن القصص والشائعات كانت تتراود حوله ولا تزال، فلم يعلموا أهي صحيحةٌ أم لا، كما أن أهل الولاية لم يلحظوا شيئًا يدل على حقيقة الشائعات المنتشرة والأقاويل الباطلة. كذلك أخبرتنا أن أهل إزكي هم أول من قدّموا الزكاة إلى النبي، لذلك سُمّيت هذه المنطقة بإزكي.
في نهاية الرحلة ودعنا جميع من زرنا، وكذلك أسرة صديق والدي وشكرناهم على كرمهم وحسن ضيافتهم ورحابة صدورهم، فلم يضعوا قاصرًا علينا، ولم نملّ من البقاء معهم، لكن لابد من العودة إلى المدينة، فعند المساء لم نستطع البقاء؛ نظرًا لأننا لم نعتد المكوث في المناطق القديمة أو الأحياء السكنية الضيقة، فالحارات ومناطق السكن مختلفة معنا تمامًا. كما أننا لم نحضر ما يلزمنا من الأدوات والعدة. وحتى لو لم تحمل مدينتي أيًا من المظاهر القديمة التي رأيتها إلا أنني أحبها كثيرًا، ولا يمكن أن أستبدلها بأي مدينة أخرى في قلبي.
لقد سلبت المدنيّةُ التي نعيشها روحنا الاجتماعية، ولمسة التراث في حياتنا، فهذه الزيارة علمتني الكثير، ولأول مرةٍ شعرتُ بأنني سائحة في بلادي! لكنني وثّقتُ هذه الزيارة كتابيًّا؛ لأن إزكي لا يليقُ بها سوى الجمال والحب. حتمًا سأعود يا إزكي، فلستُ من الذين يحبون ثم يرحلون بلا عودة .. حتمًا سأعود.

٢٩ يونيو ٢٠١٧م   |   ٥ شوال ١٤٣٨هـ
حميدة بنت محمد بن صالح العجمية




[1] ) الفوالة: هي ما يُقدّم من طعام أو شراب للضيف، حيثُ تحتوي على الفواكه والحلوى العمانية والقهوة والماء والتمر. وهي أحد أهم الوسائل لإكرام الضيف عند العرب.

تعليقات

  1. ما أحلاك يا بلدي 😍

    سلمت اناملك حميدة

    البلد بلدكم شرفونا في اي وقت 🌸🍃

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وردة في البئر

نزهة إلى العام الجديد

البئر