وردة في البئر
وردة في البئر*
مرحبا يا أصدقاء، لا أحتفل عادة بذكرى الميلاد، لكنني
أردتُ اليوم أن أكتب لي أولا: كيف بدت هذه الحياة خلال السنوات الماضية، وكيف أرجو
لها أن تبدو خلال السنين المقبلة.
في البداية، أحب أن أعرّف نفسي غالبا بالشعر، لا
بالاقتصاد والمالية: تخصصي الدراسي والمهني. خلال أيام الجامعة، كان يظن الكثيرون
بأنني من كلية التربية أو الآداب، لأنني أتحدث بفصاحة، وكنت فردًا من جماعة
الخليل، وجماعة الإعلام، وعضوا في فريق البودكاست الخاص بالجامعة، وكذلك أحد مقدمي
فعاليات الجامعة الرسمية، كمراسم حفل التخرّج، ويوم الجامعة، وغيرها. أما بالنسبة
للجانب الدراسي والمهني، كان الاقتصاد والمالية خياري منذ البداية. دائما لدي فضول
تجاه المعرفة والأشياء الجديدة، وأظن بأنني أردتُ الاقتصاد، لأنني أعلم بأنه
متجدد، ومستدام، وهناك الكثير ليقال ويكتب عنه. وهذا هو الحال الآن، وإلى الأبد.
كان هذا أحد أسبابي أيضا لإنشاء مدونتي (موازنة) الخاصة بتطوير المحتوى الاقتصادي
والمالي وتسهيله باللغة العربية.
مبكرًا، بدأتُ
العمل على خلق شخصيتي والعيش في عالمي الخاص، كنتُ أتعرّفُ على الاقتصاد حتى قبل
أن أتخصص فيه، أذكر في فترة التدريبات قبل العمل، كنت أقبل بإعطائي مهامًا أصعب من
مهام المتدرب؛ لأستطيع رؤية قدرتي على التعلم والاكتشاف. مارست التداول في الأسواق
المالية العالمية بمعرفتي الشخصية، قرأتُ ست مسرحيات وقصيدة لشكسبير قبل أن أدرسهُ
في الجامعة، حاولت حفظ إحدى المعلقات قبل كتابة الشعر، وقرأت الكثير من الدراسات
النقدية في القصائد قبل المشاركة بأي مسابقة، أردت لمن يقرأ أعمالي أن يعرف بأنها تخصّني،
دون أن يُكتب اسمي عليها.. هكذا دائما ما كنتُ أحاول أن أتقدم بخطوة زائدة على
المسار.
فكرت مليا عما يمكنني أن أكتبه، مر الكثير من الوقت منذ
آخر تدوينة كتبتها في كلتا مدونتي، وهذا العقل الجامح بالأفكار، يخبرني أن أكتب كل
يوم، رغم جنون الحياة التي نعيشها، وأحيانا ندرة شرارات الإلهام اللامعة، فمع
الانشغال بالعمل، والاستعداد للشهادة المهنية، والأمور الأخرى، يصبح الحفاظ على
وقت الكتابة الثابت يوميا أمرًا صعبا. لكنني سأكتب هنا أفكاري الغريبة.
أكثر فكرة تراودني في ذكرى الميلاد هي: التقدم بالعمر. وكنت
قد كتبت الفكرة ذاتها في تدوينة الميلاد الخاصة بعام 2018م. ترعبني فكرة أننا
نكبر، ولا نستطيع إيقاف الزمن لنأخذ استراحة حينما نشعر بعدم جدوى الحياة. تستمر
الأيام في المضي رغما عنا، لكننا أحيانا لا نستطيع أن نجاريها، فنأخذ استراحة
محارب من طرفنا فقط، حتى نعوّض الأيام الفائتة بأيام أفضل. لكن كما يقول آوريليو
آرتورو "الأيام التي تتعاقب يومًا بعد يوم، هي الحياة...".
إلى جانب ذلك، أظن بأن جيلنا والأجيال القادمة، محصورون
في سباق الإنجاز، بل دُفعنا فيه رغمًا عنّا، ودون وعي، ينبغي علينا جميعا، أن نملأ
سيرنا الذاتية بالإنجازات، وأن تكون صفحاتنا في مواقع التواصل الاجتماعي مليئة
بتحديثات السفر والمغامرات والأنشطة، وأن نقضي وقت فراغنا في تعلّم العديد من
اللغات، وربما أن يكون لنا أصدقاء/معارف أجانب كي نستطيع التباهي أمام الآخرين بالـ(Networking) الخاصة
بنا، وأن نمتلك مئات المواهب كي نكون أشخاصًا جديرين بالواقع المجنون الذي نعيشه.
كان هذا السباق الزائف -ولايزال-، كفيلا بجعلنا نعتقد
أننا دون المستوى المتوقع، بل حتى أننا لا نجيد شيئا؛ لأننا مشتتون بين الكثير من
الأشياء، وهي ردة فعل طبيعية لعقل الإنسان. هذا الشعور يوحي بالتأخر عن الآخرين،
وبأننا لا نفعل شيئا كما يجب، جعلنا نتوق إلى -ولو القليل- من المدح الخارجي
والقبول من الآخر؛ كي يؤكد أننا نبلي حسنًا، وهو أمر محزن ومحبط.
عندما أفكر في الحياة التي عشتها، أتذكرُ كم كانت حياة
جميلة، مفعمة بالأنشطة التي طورتُ بها مواهبي، صقلتُ بها شخصيتي، والمسابقات التي
تعرفتُ فيها على صديقاتي حاليًا، والتجارب الرائعة التي أصبحتُ من خلالها أنا
الآن. لكنني كنتُ منهكة في نهاية المطاف من رغبةٍ في داخلي تريد أن تجعلني رائعة
في كل شيء، حاضرة في كل شيء، بارزة في كل شيء كذلك. يظل صوتٌ ما في داخلي بإخباري،
أنني يجب أن أكون مخلوقا يشبه الكمال، وفي الوقت ذاته أعرف بأنني لست ملاكا ولستُ
آلهة أيضا.
نتيجة لذلك، دائما ما شعرتُ بالإعياء في أوقات الفراغ،
أردتُ دائمًا أن أعمل، أن يكون في يدي شيء ما، لم أحتج للكثير من فترات الراحة.
وكنت بذلك أفقد السلام الداخلي، وأتماهى في سباق الجيل المتسارع.
مع ذلك، يمكنني أن أكون صريحة مع نفسي بأريحية، دون أن
أشعر بالتقليل. أدركُ أنني شخص رائع في كل الحالات، وأنني منذ البداية النجمة التي
ولدتُ لأكونها.. لا يهم إن كانت حياتي أقل من الآخرين أو أحسن منهم، لا أعبأُ إن
لم تمتلئ صفحات مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بي بالكثير من التحديثات، لا يهمني
أن أتكلم 6 لغات، وقد لا أستطيع قراءة مائة كتاب خلال سنة، ولا يمكنني أن أتقن
باحترافية كل المهارات. أنا سعيدة وراضية بمساري الخاص وسباقي الشخصي، أشعر بأنني
فزتُ حتى قبل أن أصلَ للنهاية؛ لأن عندي ما أحتاجه وأتقنه، ويكفيني ذلك لأعيش
حياتي الخاصة المختلفة.
يسعدني أنني شخص محلّق، ويدفعني فضولي بالمعرفة لاكتشاف
أشياء مختلفة دومًا، لذا أحب تجربة مهارات جديدة؛ لأتعرف على نفسي دون الشعور
بالضغط. يمكن لإحدى قصائدي أن تكون أجمل من الأخريات، لايهم، ففي النهاية، أنا
أملك الموهبة. يمكن للوحاتي ألا تكون مثالية، ومع ذلك أحبها، لأنني أستطيع دائما
أن أرى الجمال في الثغرات. يمكنني أن أتعلم الأساسيات من أي لغة دون إتقانها 100%،
أتقبل ذلك، ويسعدني أنني متمرسة في لغتي الأم. يمكننا دائما تقليل الرغبة بمعرفة
كل شيء بتعلم الرضا، ووضع الأمور في سياقها الصحيح.
أرجو أن أتيقن كل يوم، بأن لا شيء متأخر أومتقدم في
حياتي، إنها الآن كما ينبغي لها أن تكون. ربما بعد عشر سنوات، قد أكشتف بأنني أرغب
بممارسة الإعلام وصناعة المحتوى عوضا عن الاقتصاد، وربما بعد خمس عشرة سنة، أكتشف
بأنني لا أرغب بالكتابة، بل بالرسم كموهبتي المفضلة. ربما تصبح لدي اهتمامات جديدة
في المستقبل حول التغذية، والفلسفة، والعلوم، ... لا بأس بذلك، ولن أكون متفاجئة
أيضا، هكذا نعيد اكتشاف ذواتنا، في طور الحياة الرتيب الممل.
أريدُ لمساحة صبري بأن تتمدد، ولقناعتي أن تتوسع، وللرضا
في قلبي أن يكبر.. لا أرغب بشيء أكثر من أن أعيش في اللحظة الحالية، لا يهمني
الماضي، تعلمت منه وانتهى. ولا أرغب بالتخطيط القاسي والمفصّل للمستقبل، فلا شيء
سيحدث إلا ما كُتب لنا. يكفي وضع خطط تفصيلية للأسبوع أو الشهر، وخطط عامة للسنوات
القادمة. عوضا عن وضع مئات الأهداف، الاجدى هدفان أو ثلاثة، أعمل عليهم بكل كفاءة،
ويكفي ذلك لأشعر بالفخر بنفسي؛ لأن الحب يضيء كل شيء.
أكتب كل هذا، وأعلم أن الأمور قد تصبحُ صعبة، قد لا أحقق
ما خططتُ له، ومجددا، سأظن أن الماضي كان أفضل، وبأن الرغبة بمعرفة كل شيء تنقرُ
في رأسي. لكنني أبذل قصارى جهدي لأن تكون الدروس القيّمة التي تعلمتها مؤخرا، هي
إرشادي طوال الطريق. أخبرني أحد معارفي بأننا رائعون بإنسانيتنا، ولا يمكننا أن
نمحو أحد مشاعرنا لأننا لا نرغب بها. فمع الحزن يأتي الفرح، ومع الشدة يأتي اليسر،
كما مع السهل يأتي الصعب، ومع النجاح تأتي الخسارة. كل ما سبق ليس سيئا بالمناسبة،
إنها مراحل تعلمنا الدروس، لكننا بطبيعتنا نحب أن يكون بمقدورنا توقع المستقبل،
وما ستؤول إليه حياتنا.
حميدة
الجمعة – 19 يوليو 2024م – ذكرى الميلاد
_________________
* بالمناسبة، هناك قصيدة جميلة أحبها، للشاعرة أليس
والكر، اسمها (حفرة تشبه البئر الصغيرة)، قرأتها ضمن مجموعة نصوص شعرية مترجمة من
العالم في كتاب "إنها تمطر .. وهذه قصيدتك يا حبيبتي". تشعرني هذه
القصيدة بالدفء في يومي الخاص، أحبها كثيرًأ لأنني أشعر وكأنها تصف شخصيتي.. أضع
لكم جزءا منها هنا:
"أمنيتي
هي نفسها دائما
أينما كانت حياتي،
أريد أن أقف على أصابع قدميّ
وقريبًا، أزرع جسمي كلّه
في الماء.
يبدو من المستحيل
أن تتحول رغباتنا إلى صلاة وتقوى!
لكنه يحدث أحيانا:
في حديقة قلبي،
أرى حفرة تشبه البئر الصغيرة
كنتٌ أهتمُّ بها،
ها قد نمت في القلب،
لكي تملأه".
وهذه التدوينة هي وردتي، أخرجها من بئر قلبي، لكم. إن
كنتم قد وصلتم بالقراءة إلى هذا الحد، فإنني شاكرة لكم محبتكم، وممتنة لوقتكم الذي
منحتموني إياه. أرجو لكم الخير والبركة في أيامكم يا أصدقاء.
مع محبتي..
تعليقات
إرسال تعليق