نزهة إلى العام الجديد
مرحبًا يا أصدقاء، أرجو أن تكونو على ما يرام وأنتم تقرؤون هذه التدوينة.
إذا، كان
عاما حافلا، أليس كذلك؟
في كل مرة
على مشارف نهاية ديسمبر، يتهافت الناس على صناعة لوحة الأهداف (Vision board) ووضع الخطط المفصّلة للعام الجديد، فهو أمر
شائع هذه الأيام تم التروييج له كثيرًا، ويجعلني أتسائل عن مدى واقعية الأهداف
التي نضعها ونطمح لها، وعن مدى جدّيتنا في تحقيق تلك الأهداف.
أؤمن بشدة أن
أقداركم تؤخذ من أفواهكم، وأؤمن أكثر أن على قدر سعيكم ترزقون. عندما كنت أصغر
سنًا، كنت أضع الكثير من الأهداف مع خطط صارمة محددة بالوقت واليوم والتاريخ
لتحقيقها. كان الأمر متعبا لدرجة أنني ظننت الحياة قاسية للغاية، وكنت في الواقع
أنا من يقسو على نفسه؛ لأنني لم أفهم بعد طبيعة هذه الحياة. ولكن مع تتالي
السنوات، أصبحت أدرك أن هناك ما هو أكبر من قدرتي على التحكم به، وسيظهر هذا في
حياتنا دائما، وسيظل يظهر حتى نتعلم درسا مهما، وهو التسليم بما يكتبه الله لنا
والعمل بناء على ما يأتي بعده.
يحدث كثيرا،
أن تخطط للعمل في جهة معينة، وتبذل كل جهدك لأجل الوصول إليها، بل وأنت تعلم في
داخلك مدى جدارتك، لكن يشاء الله ولا تصل إلى تلك الجهة. نُصِرُّ أحيانا على ادّخار
المال لأجل شيء مهم، ونظل سنين طويلة من حياتنا قابضين أيدينا من أجلها، لكن يشاء
الله وتظهر حاجة أشد إلحاحًا مما كنت تدخر له. لديك ذلك الصديق الذي قضيتم سنين
طويلة معا، وفجأة يبدأ بالاختفاء بحجة الانشغال وعدم كفاية الوقت، وأنت أكثر من
يعلم أن الاطمئنان على الأعزاء عليك، لا يأخذ
أكثر من خمس ثوانٍ لكتابة رسالة: "مرحبًا، حبيت أطمئن عليك، أتمنى تكون
بخير".
مسألة إدارة
التوقعات مهمة جدا، لا أستطيع أن أقول تخفيض التوقعات، فمن منا لا يحلم بغد أجمل،
ولكن على توقعاتنا أن تناسب حجم مجتمعنا، بل دعني أقول حجم الإطار الذي نعيش فيه.
بإمكانك أن ترفض ذلك، وهو حقك، ولكن جزءا من الجحيم أحيانًا هو من صناعة أيدينا.
لذلك التقبل، والتسليم، والقبول بأن الله يخبئ لك الأجمل، وبأنها الدنيا الفانية
التي يوجد ورائها عالم دائم الفرح.
أود أن
أقول لنفسي أولا: الصبر الصبر، اسع
واستقبل ما يجيء من الله، عدّل خططك وامضِ على أمل أن يعطيكَ ما تستحق، لا ما ترغب
به. ليس كل ما نرغب به لأنفسنا جيدًا بالمناسبة، كم من شر دُفِع عنا بفضل رحمة
الله؟ المرونة في التخطيط والقدرة على التكيف مهارتان مهمتان، فحينما لا تسير خطتك
بالطريقة التي وضعتها، هذا لا يعني فشلك، تذكر ما لا تستطيع التحكم به. قوتك
ونجاحك الحقيقيان، هما قدرتك على تعديل الوضع، والتماشي معه. أنت لست روبوتا آليا
كي تحقق نتائج مثالية في وقت قياسي، بل أنت إنسان لك ظروفك وأيامك، وهذه الظروف
والأيام تصنع الإبداع، والتجربة، والخبرة.
شاهدت مرة
مقطع فيديو كتب في صدره عبارة، وأظنها بحاجة لأن يقرأها كل من تمتلئ حياته بالبؤس
في مواقع التواصل الاجتماعي: "الحياة ليست ريلز انستجرام!". عميقة، أليس
كذلك؟ في الوقت الذي تتهافت فيه وسائل التواصل الاجتماعي من أجل تضخيم أرباحها،
تتفنن في صنع عشوائيات ضخ الدوبامين السريع، وهي مقاطع الفيديو القصيرة التي تجعل
الإنسان يشعر بسهولة الوصول إلى المحتوى، فيظن الوصول لكل شيء في الحياة سهلا،
وكذلك بسبب قدرته على التنقل من محتوى إلى آخر، من حساب إلى آخر، من شخص إلى آخر،
يظن تغيير الحياة شيئا سهلا. بل إنه يشعر بالإحباط بسبب ما ينشره الآخرون، وهو
أغلبه مصطنع. لا يمكننا أن نتجاهل جهود صناع المحتوى النظيف، هناك من يقدم المحتوى
الواقعي، وهناك من يحاول أن يخلق واقعا مثاليا لا وجود له. اختر ما يناسبك، في هذا
العصر، لا قيود مفروضة عليك، أنت حارس عقلك، فاسمح لما تريد بالدخول.
أحب دائما
لهذه التدوينات أن تكون مواسية ولطيفة. مع ذلك، أريدها أن تكون واقعية أيضا. هذا
ليس عالم ديزني، لم نعد صغارا، وأصبحت الأيام تشبه بعضها، كما أصبح الذكاء
الاصطناعي مفضلًا على التجربة البشرية الإبداعية. أصبح الروتين مهما لدى بعضنا،
بينما الآخر لا يزال يبحث عن الدهشة. وحقيقة الأمر، أن كلاهما رائع، طالما وجدتَ
راحة نفسك واستقرارها، ونموك الشخصي والذاتي، فأنتَ بخير. لا يوجد شيء واحد مطلق
لنعترف أن شخصا ما ناجح. النجاح نسبي، ورؤيتنا له مختلفة.
في العام
الجديد، ورغم تقلّب الحياة، أود أن تكون أيامي نزهة لطيفة، أمر عليها وآخذ ما
يسعدني، كما أتعلم مما يصعب عليّ. كل شيء في هذه النزهة مؤقت، فلا حزن دائم ولا
فرح، لا ناس باقون إلى الأبد ولا أصدقاء، لا تعب مستمر ولا راحة. هي نزهة كل شيء
فيها عابر، أستمتع به، وأتعلم منه.
أريد روحا
خفيفة، وعقلا هادئا، ومبادئ ثابتة، لا شيء يخيفني، ولا شيء يمكنه أن يزعزع هذا
الأمان.
تقدّم
الآخرون عليك.. لا بأس، هذه رحلتي ولي وقتي.
لدى الآخرينَ
شهادةٌ وعملٌ ثابت.. لي وقتي الثمين وراحة بالي.
تزوّجَ ذلك
الشخصُ مبكرا وله أطفال.. أُفضِّل الشخصَ المناسب ورزقي على الله.
لماذا تعملُ
باجتهاد؟ لا شيء يستحق، جميعهم ممثلون بارعون.. العمل أمانة، الأمانة مبدأ،
والمبادئ ثابتة لا تتغير.
هذا عالم
قبيح، سيء، وغير عادل.. أعلم، لكنني أؤمن بمن خلق هذا العالم، ورغم كل شيء، أن
لطفه يرعاني، فأنا رغم بشاعة هذا العالم، لا أزال على قيد الحياة، لي منزلي،
وصحتي، وناسي، ومكاني، وكل النعم التي مهما أحصيتها لا أقدر على عدها. فشكرًا لك
يا ربِّ على كل شيء، على الرضا الذي تعلمني إياه، على كل عقبة وضعتها في طريقي كي
تجعلني أقوى، على الدروس التي مهما قست، صنعتْ هذا الإنسان الواعي، على الخيبات
التي جعلت من هذا الشخص متوازنا واقعيا، يدرك حقيقة الحياة.
أرجو أن تكون
نزهتكم خفيفة يا أصدقاء، وأن يكون كل شيء على ما يرام. قد لا تجدون من يقول لكم:
لا بأس، سيكون كل شيء على ما يرام، أنت تبلي حسنًا، كل شيء مؤقت،... هذه التدوينة
هي كفي الذي يربت على ظهركم، حينما لا تجدون من يواسيكم.
في النهاية،
أود أن أختم التدوينة بقصيدة (رغبة بسيطة) من كتاب (إنها تمطر وهذي قصيدتك يا
حبيبتي – نصوص شعرية من العالم):
"بعينين
مغلقتين، أريد أن أرى العالم..
أريد أن
أعبره بساقٍ عرجاء..
أذناي
مغلقتان،
لكني أريدُ أن
أسمعَ العالم..
رغمًا عن
رغباتي المعطلة
أريد أن أشعر
بهذا العالم.
أملٌ صغير قد
يلغي كل أفكار التشاؤم
رغبة بسيطة،
قد تمنحنا
طموحًا أقوى في الحياة"
__________
حميدة
22 ديسمبر 2024م
تعليقات
إرسال تعليق